في حَدّ هان؟ في حَدّ سامعني؟ | شعر

امرأة غزّيّة جريحة ممسكةً بيد شهيد، 23/10/2023 | علي جاد الله، Getty.

 

هل بقي الشارع؟

هل بقي البيت واقفًا؟ أم تقيّأ جدرانه؟

كم بيتًا أُصيب بعسر هضم الصدمة؟

ماذا يفعل الناس في الشارع المنهار؟

يصطفّون لطابور الخبز؟ أم يلوكون الانتظار؟

أيرتّبون الخيام؟ أم يبتكرون طرقًا فذّة للنجاة كعادتهم؟

 

هل تحلّق الوصايا في الفضاء الأزرق؟

كيف تُكْتَب الوصيّة؟

أَيُفْجَع الطفل قبل أن يموت؟ أم يبكي فقط؟

رأيت جثّة طفلةٍ متخشّبةٍ في التلفاز؟ ظننتها لوهلةٍ نائمةً

لكنّ أيدي المشيّعين ومشيتهم الثقيلة أحبطت الاحتمال!

رأيت حقيبةً صغيرةً يحملها طفلٌ قصير القامة

ويخبر المسعف: "فيها أشلاء أخوي"!

عناقٌ أبديّ!

وأسأل: هل انكسر ظهره؟ هل انحنى؟

وأجيب: أيّ العناقات تحني الظهر؟

أيّ العناقات أكثر عمقًا مِنْ هذا العناق وأطهر؟

وهل عانقنا غزّة كما يجب؟

أم أنّ البحر عانقها؟ ومسح غبار الصواريخ عن شمسها

فالتهبت قلوبنا

ولم تلتفت للفاجعة

ولا البيت

ولا لـ "إحنا مش بخير، بسّ واقفين!"

ولا لـ "شو بدّك تشوفي يا حجّة، ما ظلّ إشي تشوفيه! تشوفي الحسرة! رَوّحي يا حجّة!"

ألتفتت فقط لـ "لسّة عايشين!" و "معليش!"

 

هل ستحتوينا الشوارع؟ أم تلفظنا الخيام في هذا الشتاء الطويل؟

هل لمرّةٍ واحدةٍ سنبتلّ بدموعنا بدلًا مِنَ الردم المتناثر؟

هل سنحمل العلم بدلًا من الكفن، ونركض به؟

متى ستتوقّف الجنائز السريعة القصيرة

والمقابر الجماعيّة؟

 

اخْتُرِعَت الجرّافة لحفر الأرض، لبناء البيت أو  بئرٍ ارتوازيّةٍ

لا لبناء مقبرةٍ جماعيّةٍ لمجهولين!

نحن لم نعرفهم! لكنّهم يعرفون أنفسهم ولديهم مَنْ يعرفونهم،

أو كان!

المجهول الطفل رقم 101 لم يكن مجهولًا أيضًا

إنّما جهلناه نحن، لكنّه على الأقلّ كان يتنفّس

فعانقناه، خشية أن يقتلع بكاؤه قلبه!

أرى ولدًا يرتدي منامة أخته الشتويّة، بينما أبوه بملابس صيفيّة!

وأسأل، ألا يشعر بالبرد؟

لوهلةٍ أتناسى كلّ الأسى والإبادة والرعب،

وأسأل، ألا يشعر بالبرد؟

هل هو دافئ؟

سؤالٌ ساذجٌ باحثٌ عن أملٍ تحت الأنقاض

ومسعفٌ ينادي برأسٍ ممدودٍ متسلّلٍ في فتحةٍ صغيرةٍ في بناية سبعة طوابق التحمت بقاع الشارع: "في حَدّ هان؟ في حَدّ سامعني؟"

ويتفجّر فيّ سؤال: هل يسمعنا أحد؟ هل نحن مرئيّين؟

ثمّ يموت السؤال في كلّ خبرٍ عاجلٍ

مع كلّ عبارةٍ: "هذا الرقم خارج الخدمة"، يتآكلني ليل الاحتمالات الطويل

وأصرخ: في حدّ سامعنا؟ يا جرحنا السرمديّ؟ أترانا؟ أم تلوكنا في عتمة الضمير

أتحسّنا؟ أم تهدهد على السور، وتفتحه ملمًا واحدًا، لتدخل شاحنةٌ تلفظها الشوارع

وكرامتنا

أترانا؟ أم أنّنا مجهولون أيضًا بلا داعٍ لاستقصاءاتٍ جنائيّةٍ مِنْ حمضننا النوويّ!

 

ثمّ يتكرّر الصدى: "في حَدّ هان؟ في حَدّ سامعني؟"

وتموت الإجابة

ويخبو الأمل على مهلٍ

ثمّ يبزغ في الصباح

متنفّسًا

زافرًا رحم موتٍ جماعيّ

وطابور طويل مِنْ "لسّة عايشين!"

 


 

منى المصدر

 

 

 

شاعرة وباحثة فلسطينيّة من قطاع غزّة. صدر لها عن الأهليّة مجموعة شعريّة بعنوان «لأنّني أخشى الذاكرة» عن «دار فضاءات» (الأهليّة، 2020)، «أعدّ خطاي» (فضاءات، 2017).